الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»
.تفسير الآية رقم (15): {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15)}{مَن كَانَ يُرِيدُ} أي بأعماله الصالحة بحسب الظاهر {الحياة الدنيا وَزِينَتَهَا} أي ما يزينها ويحسنها من الصحة والأمن وكثرة الأموال والأولاد والرياسة وغير ذلك، وإدخال {كَانَ} للدلالة على الاستمرار أي من يريد ذلك بحيث لا يكاد يريد الآخرة أصلًا {نُوَفّ إِلَيْهِمْ أعمالهم فِيهَا} أي نوصل إليهم أجور أعمالهم في الدنيا وافية، فالكلام على حذف مضاف، وقيل: الأعمال عبارة عن الأجور مجازًا، وإليه يشير كلام شيخ الإسلام والأول أولى، و{نُوَفّ} متضمن معنى نوصل ولذا عدي بإلى، وإلا فهو مما يتعدى بنفسه، وقيل: إنه مجاز عن ذلك، وقرأ طلحة بن ميمون يوف بالياء، وإسناد الفعل إلى الله تعالى، وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما يوف بالياء مخففًا مضارع أوفى، وقرئ توف بالتاء مبنيًا للمفعول، ورفع {أعمالهم} والفعل في كل ذلك مجزوم على أنه جواب الشرط كما انجزم في قوله سبحانه: {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الاخرة نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ} [الشورى: 20] وحكى الفراء أن {كَانَ} زائدة ولذا جزم الجواب، وتعقبه أبو حيان بأنه لو كانت زائدة لكان فعل الشرط {يُرِيدُ} وكان يكون مجزومًا، وأجيب بأنه يحتمل أنه أراد بكونها زائدة أنها غير لازمة في المعنى، وقرأ الحسن نوفي بالتخفيف وإثبات الياء، وذلك إما على لغة من يجزم المنقوص بحذف الحركة المقدرة كما في قوله:أو على ما سمع في كلام العرب إذا كان الشرط ماضيًا من عدم جزم الجزاء وإما لأن الأداة لما لم تعمل في الشرط القريب ضعفت عن العمل في لفظ الجزاء البعيد فعملت في محله.ونقل عن عبد القاهر أنها لا تعمل فيه أصلًا لضعفها، والمشهور فيه عن النحاة مذهبان: كون الجزاء في نية التقديم. وكونه على تقدير الفاء والمبتدأ، ويمكن أن يرد ذلك إلى هذا، وليس هذا مخصوصًا فيما إذا كان الشرط كان على الصحيح لمجيئه في غيره كثيرًا، ومنه: {وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ} أي لا ينقصون، والظاهر أن الضمير المجرور للحياة الدنيا وقيل: الأظهر أن يكون للأعمال لئلا يكون تكرارًا بلا فائدة، وردّ بأن فائدته إفادته من أول الأمر أن عدم البخس ليس إلا في الدنيا فلو لم يذكر توهم أنه مطلق على أنه لا يجوز أن يكون للتأكيد ولا ضرر فيه، وإنما عبر عن ذلك بالبخس الذي هو نقص الحق، ولذلك قال الراغب: هو نقص الشيء على سبيل الظلم مع أنه ليس لهم شائبة حق فيما أوتوه كما عبر عن إعطائه بالتوفية التي هي إعطاء الحقوق مع أن أعمالهم عزل من كونها مستوجبة لذلك كما قال بعض المحققين بناءًا للأمر على ظاهر الحال ومحافظة على صور الأعمال ومبالغة في نفي النقص كأن ذلك نقص لحقوقهم فلا يدخل تحت الوقوع والصدور عن الكريم أصلًا لكن ينبغي أن يعلم أن هذا ليس على إطلاقه بل الأمر دائر على المشيئة الجارية على قضية الحكمة كما نطق به قوله سبحانه: {مَّن كَانَ يُرِيدُ العاجلة عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ} [الإسراء: 18].وأخرج النحاس في ناسخه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن هذه الآية نسخت الآية التي نحن فيها، وأنت تعلم أنه لا نسخ في الأخبار، ولعل هذا إن صح محمول على المسامحة. .تفسير الآية رقم (16): {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16)}{أولئك} إشارة إلى المذكورين باعتبار استمرارهم على إرادة الحياة الدنيا، أو باعتبار توفيتهم أجورهم فيها من غير نجس، أو باعتبارهما معًا، وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلتهم في سوء الحال {الذين لَيْسَ لَهُمْ فِي الاخرة إِلاَّ النار} لأن هممهم كانت مصروفة إلى اقتناص الدنيا وأعمالهم كانت ممدودة ومقصورة على تحصيلها؛ وقد ظفروا بما يترتب على ذلك ولم يريدوا به شيئًا آخر فلا جرم لم يكن لهم في الآخرة إلا النار وعذابها المخلد.{وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا} أي في الآخرة كما هو الظاهر، فالجار متعلق بحبط و{مَا} تحتمل المصدرية والموصولية أي ظهر في الآخرة حبوط صنعهم، أو الذي صنعوه من الأعمال التي كانت تؤدي إلى الثواب الأخروي لو كانت معمولة للآخرة، ويجوز أن يعود الضمير إلى الدنيا فيكون الجار متعلقًا بصنعوا و{مَا} على حالها، والمراد بحبوط الأعمال عدم مجازاتهم عليها لفقد الاعتداد بها لعدم الإخلاص الذي هو شرط ذلك، وقيل: لجزائهم عليها في الدنيا {وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} قال أبو حيان: هو تأكيد لقوله سبحانه: {حَبِطَ} إلخ، والظاهر أنه حمل {مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} على معنى {مَا صَنَعُواْ} والبطلان على عدم النفع وهو راجع إلى معنى الحبوط.ولما رأى بعضهم أن التأسيس أولى من التأكيد أبقى ما {يَعْمَلُونَ} على ذلك المعنى، وحمل بطلان ذلك على فساده في نفسه لعدم شرط الصحة، وقال: كأن كلًا من الجملتين علة لما قبلها على معنى ليس لهم في الآخرة إلا النار لحبوط أعمالهم وعدم ترتب الثواب عليها لبطلانها وكونها ليست على ما ينبغي، والأولى ما صنعه المولى أبو السعود عليه الرحمة حيث حمل البطلان على الفساد في نفسه، و{مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} على أعمالهم في أثناء تحصيل المطالب الدنيوية، ثم قال: ولأجل أن الأول من شأنه استتباع الثواب والأجر وأن عدمه لعدم مقارنته للإيمان والنية الصحيحة، وأن الثاني ليس له جهة صالحة قط علق بالأول الحبوط المؤذن بسقوط أجره بصيغة الفعل المنبئ عن الحدوث، وبالثاني البطلان المفصح عن كونه بحيث لا طائل تحته أصلًا بالاسمية الدالة على كون ذلك وصفًا لازمًا له ثابتًا فيه، وفي زيادة كان في الثاني دون الأول إيماءً إلى أن صدور أعمال البر منهم وإن كان لغرض فاسد ليس في الاستمرار والدوام كصدور الأعمال التي هي مقدمات مطالبهم الدنيئة انتهى.ويحتمل عندي على بعد أن يراد بما كانوا يعملون هو ما استمروا عليه من إرادة الحياة الدنيا وهو غير ما صنعوه من الأعمال التي نسب إليها الحبوط وإطلاق مثل ذلك على الإرادة مما لا بأس به لأنها من أعمال القلب، ووجه الإتيان بكان فيه موافقته لما أشار هو إليه، وفي الجملة تصريح باستمرار بطلان تلك الإرادة وشرح حالها بعد شرح حال المريد وشرح أعماله أراد بها الحياة الدنيا وزينتها، وأيًا مّا كان فالظاهر أن {باطل} خبر مقدم و{إِلَيْكَ مَا كَانُواْ} هو المبتدأ، وجوز في البحر كون {باطل} خبرًا بعد خبر، و{فِى مَا} مرتفعة به على الفاعلية، وقرئ وبطل بصيغة الفعل أي ظهر بطلانه حيث علم هناك أن ذاك وما يستتبعه من الحظوظ الدنيوية مما لا طائل تحته أو انقطع أثره الدنيوي فبطل مطلقًا، وقرأ أبي.وابن مسعود وباطلًا بالنصب ونسب ذلك إلى عاصم وخرجه صاحب اللوامح على أن {مَا} سيف خطيب وباطل مفعول ليعلمون وفيه تقديم معمول {كَانَ} وفيه كتقديم الخبر خلاف، والأصح الجواز لظاهر قوله تعالى: {أَهَؤُلاَء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ} [سبأ: 40] ومن منع تأول، وجوز أن يكون منصوبًا بيعملون و{مَا} إبهامية صفة له أي باطلًا أي باطل، ونظير ذلك حديث ما على قصره ولأمر ما جدع قصير أنفه، وأن يكون مصدرًا بوزن فاعل، وهو منصوب بفعل مقدر، و{مَا} اسم موصول فاعله أي بطل بطلانًا الذي كانوا يعملونه، ونظيره خارجًا في قول الفرزدق:فإنه أراد ولا يخرج من في زور كلام خروجًا، وفي ذلك على ما في البحر إعمال المصدر الذي هو بدل من الفعل في غير الاستفهام والأمر هذا، والظاهر أن الآية في مطلق الكفرة الذين يعملون البر لا على الوجه الذي ينبغي، وأخرج ابن جرير. وابن أبي حاتم. وغيرهما عن أنس رضي الله تعالى عنه أنها نزلت في اليهود والنصارى، ولعل المراد كما قال ابن عطية أنهم سبب النزول فيدخلون فيها لا أنها خاصة بهم ولا يدخل فيها غيرهم، وقال الجبائي: هي في الذين جاهدوا من المنافقين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل الله تعالى حظهم من ذلك سهمهم في الغنائم، وفيه أن ذلك إنما كان بعد الهجرة والآية مكية، وقيل: في أهل الرياء يقال لقارئ القرآن منهم: أردت أن يقال: فلان قارئ، فقد قيل: اذهب فليس لك عندنا شيء، وهكذا لغيره من المتصدق. والمقتول في الجهاد. وغيرهما ممن عمل من أعمال البر لا لوجه الله تعالى، ورا يؤيد ذلك ما روي عن معاوية حين حدثه أبو هريرة بما تضمن ذلك فبكى، وقال: صدق الله ورسوله صلى الله عليه وسلم {مَن كَانَ يُرِيدُ الحياة الدنيا وَزِينَتَهَا} إلى قوله سبحانه: {وباطل مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [هود: 61] وعليه فلابد من تقييد قوله عز وجل: {لَيْسَ لَهُمْ فِي الاخرة إِلاَّ النار} بأن ليس لهم بسبب أعمالهم الريائية إلا ذلك وهو خلاف الظاهر، والسياق يقتضي أنها في الكفرة مطلقًا وبرهم كما قلنا، ومن هنا اشتهر أن الكافر يعجل له ثواب أعماله في الدنيا بتوسعة الرزق وصحة البدن وكثرة الولد ونحو ذلك وليس لهم في الآخرة من نصيب لكن ذهب جماعة إلى أنه يخفف بها عنه عذاب الآخرة، ويشهد له قصة أبي طالب، وذهب آخرون إلى أن ما يتوقف على النية من الأعمال لا ينتفع الكافر به في الآخرة أصلًا لفقدان شرطه إذ لم يكن من أهل النية لكفره، وما لا ينتفع به ويخفف به عذابه، وبذلك يجمع بين الظواهر المقتضى بعضها للانتفاع في الجملة وبعضها لعدمه أصلًا فتدبر.ووجه ارتباط هذه الآية بما قبلها على ما في مجمع البيان أنه سبحانه لما قال: {فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ}؟ فكأن قائلًا قال: إن أظهرنا الإسلام لسلامة النفس والمال يكون ماذا؟ فقيل: {مَن كَانَ يُرِيدُ الحياة الدنيا} [هود: 15] إلخ، أو يقال: إن فيما قبل ما يتضمن إقناط الكفرة من أن يجيرهم آلهتهم من بأس الله عز سلطانه كما تقدم، وذكره بعض المحققين فلا يبعد أن يكون سماعهم ذلك سببًا لعزمهم على إظهار الإسلام، أو فعل بعض الأعمال الصالحة ظنًا منهم أن ذلك مما يجيرهم وينفعهم فشرح لهم حكم مثل ذلك بقوله سبحانه: {مَن كَانَ يُرِيدُ} [هود: 15] إلخ لكن أنت تعلم أن هذا يحتاج إلى ادعاء أن ذلك العزم من باب الاحتياط، وفي البحر في بيان المناسبة أنه سبحانه لما ذكر شيئًا من أحوال الكفار في القرآن ذكر شيئًا من أحوالهم الدنيوية وما يؤولون إليه في الآخرة، وأبو السعود بين ذلك على وجه يقوي به ما ادعاه من أنسبية كون الخطاب فيما سلف له عليه الصلاة والسلام والمؤمنين، فقال: والذي يقتضيه جزالة النظم الكريم أن المراد مطلق الكفرة بحيث يندرج فيهم القادحون في القرآن العظيم اندراجًا أوليًا فإنه عز وجل لما أمر نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بأن يزدادوا علمًا ويقينًا بأن القرآن منزل بعلم الله سبحانه وبأن لا قدرة لغيره سبحانه على شيء أصلًا وهيجهم على الثبات على الإسلام والرسوخ فيه عند ظهور عجز الكفرة وما يدعون من دون الله تعالى عن المعارضة وتبين أنهم ليسوا على شيء أصلًا اقتضى الحال أن يتعرض لبعض شؤونهم الموهمة لكونهم على شيء في الجملة من نيلهم الحظوظ العاجلة واستوائهم على المطالب الدنيوية، وبيان أن ذلك عزل عن الدلالة عليه، ولقد بين ذلك أي بيان انتهى، ولا يخفى أنه يمكن أن يقرر هذا على وجه لا يحتاج فيه إلى توسط حديث جعل الخطاب السابق له صلى الله عليه وسلم والمؤمنين فليفهم، واستدل في الأحكام بالآية على أن ما سبيله أن لا يفعل إلا على وجه القربة لا يجوز أخذ الأجرة عليه لأن الأجرة من حظوظ الدنيا فمن أخذ عليه الأجرة خرج من أن يكون قربة قتضى الكتاب والسنة، وادعى الكيا أنها مثل قوله صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات» وتدل على أن من صام في رمضان لا عن رمضان لا يقع عن رمضان، وعلى أن من توضأ للتبرد أو التنظف لا يصح وضوؤه، وفي ذلك خلاف مبسوط بما له وعليه في محله. .تفسير الآية رقم (17): {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (17)}{أَفَمَن كَانَ على بَيّنَةٍ مّن رَّبّهِ} تدل على الحق والصواب فيما يأتيه ويذره، ويدخل في ذلك الإسلام دخولًا أوليًا، واقتصر عليه بعضهم بناءًا على أنه المناسب لما بعد، وأصل البينة كما قيل: الدلالة الواضحة عقلية كانت أو محسوسة، وتطلق على الدليل مطلقًا، وهاؤها للمبالغة، أو النقل، وهي وإن قيل: إنها من بان عنى تبين واتضح لكنه اعتبر فيها دلالة الغير والبيان له، وأخذها بعضهم من صيغة المبالغة، والتنوين فيها هنا للتعظيم أي بينة عظيمة الشأن، والمراد بها القرآن وباعتبار ذلك أو البرهان ذكر الضمير الراجع إليها في قوله سبحانه: {وَيَتْلُوهُ} أي يتبعه {شَاهِدٌ} عظيم يشهد بكونه من عند الله تعالى شأنه وهو كما قال الحسين بن الفضل الإعجاز في نظمه، ومعنى كون ذلك تابعًا له أنه وصف له لا ينفك عنه حتى يرث الله تعالى الأرض ومن عليها فلا يستطيع أحد من الخلق جيلًا بعد جيل معارضته ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا. وكذا الضمير في {مِنْهُ} وهو متعلق حذوف وقع صفة لشاهد، ومعنى كونه منه أنه غير خارج عنه.وجوز أن يكون هذا الضمير راجعًا إلى الرب سبحانه، ومعنى كونه منه تعالى أنه وارد من جهته سبحانه للشهاد، وعلى هذا يجوز أن يراد بالشاهد المعجزات الظاهرة على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنها من الشواهد التابعة للقرآن الواردة من قبله عز وجل، وأمر التبعية فيها ظاهر، والمراد بالموصول كل من اتصف بتلك الكينونة من المؤمنين.وعن أبي العالية أنه النبي عليه الصلاة والسلام ولا يخفى أن قوله سبحانه الآتي: {أولئك} إلخ لا يلائمه إلا أن يحمل على التعظيم، وأيضًا إن السياق كما ستعلم إن شاء الله تعالى للفرق بين الفريقين المؤمنين. ومن يريد الحياة الدنيا لا بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم، وفسر أبو مسلم. وغيره البينة بالدليل العقلي، والشاهد بالقرآن وضمير {مِنْهُ} لله تعالى، ومن ابتدائية، أو للقرآن فقد تقدم ذكره، ومن حينئذٍ إما بيانية. وإما تبعيضية بناءًا على أن القرآن ليس كله شاهدًا وليس من التجريد على ما توهم الطيبي، فيكون في الآية إشارة إلى الدليلين العقلي. والسمعي، ومعنى كون الثاني تابعًا للأول على ما قيل: إنه موافق له لا يخالفه أصلًا، ومن هنا قالوا: إن النقل الصحيح لا يخالف العقل الصريح، ولذا أولوا الدليل السمعي إذا خالف ظاهره الدليل العقلي، ولعل في التعبير عن الأول بالبينة التي جاء إطلاقها في كلام الشارع على شاهدين، وعن الثاني بالشاهد الإيماء إلى أن الدليل العقلي أقوى دلالة من الدليل السمعي لأن دلالة الأول قطعية.ودلالة الثاني ظنية غالبًا للاحتمالات الشهيرة التي لا يمكن القطع معها، وقد يقال: إن التعبير عن الثاني بالشاهد لمكان التلو.وعن ابن عباس. ومجاهد. والنخعي. والضحاك. وعكرمة. وأبي صالح. وسعيد بن جبير أن البينة القرآن، والشاهد هو جبريل عليه السلام ويتول من التلاوة لا التلو، وضمير {مِنْهُ} لله تعالى، وفي رواية عن مجاهد أن الشاهد ملك يحفظ القرآن وليس المراد الحفظ المتعارف لأنه كما قال ابن حجر خاص بجبريل عليه السلام، وضمير {مِنْهُ} كما في سابقه إلا أن يتلو من التلو والضمير المنصوب للبينة، وقيل: لمن كان عليها، وعن الفراء أن الشاهد هو الإنجيل، {وَيَتْلُوهُ} وضمير {مِنْهُ} على طرز ما روي عن مجاهد سوى أن ضمير يتلوه للقرآن.وأخرج أبو الشيخ عن محمد بن الحنفية أن الشاهد لسانه صلى الله عليه وسلم، وقد ذكر أهل اللغة ذلك؛ وكذا الملك من معانيه، ويتلو حينئذٍ من التلاوة، والإسناد مجازي ومفعوله للبينة، وضمير {مِنْهُ} للرسول صلى الله عليه وسلم بناءًا على أنه المراد بالموصول، ومن تبعيضية، وقيل: الشاهد صورته عليه الصلاة والسلام ومخايله لأن كل عاقل يراه يعلم أنه عليه الصلاة والسلام رسول الله.وأخرج ابن أبي حاتم. وابن مردويه عن علي كرم الله تعالى وجهه قال: «ما من رجل من قريش إلا نزل فيه طائفة من القرآن، فقال له رجل: ما نزل فيك؟ قال: أما تقرأ سورة هود {أَفَمَن كَانَ على بَيّنَةٍ} الآية من كان على بينة من ربه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا شاهد منه»، وأخرج المنهال عن عبادة بن عبد الله مثله، وأخرج ابن مردويه بوجه آخر عن علي كرم الله تعالى وجهه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «{أَفَمَن كَانَ على بَيّنَةٍ مّن رَّبّهِ} أنا {وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ} علي».وأخرج الطبرسي نحو ذلك عن بعض أهل البيت رضي الله تعالى عنهم وتعلق به بعض الشيعة في أن عليًا كرم الله تعالى وجهه هو خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن الله تعالى سماه شاهدًا كما سمى نبيه عليه الصلاة والسلام كذلك في قوله سبحانه: {إِنَّا أرسلناك شَاهِدًا وَمُبَشّرًا وَنَذِيرًا} [الفتح: 8] والمراد {شاهدا} على الأمة كما يشهد له عطف {مُبَشّرًا وَنَذِيرًا} عليه فينبغي أن يكون مقامه كرم الله تعالى وجهه بين الأمة كمقامه عليه الصلاة والسلام بينهم، وحيث أخبر سبحانه أنه يتلوه أي يعقبه ويكون بعد دل على أنه خليفته، وأنت تعلم أن الخبر مما لا يكاد يصح، وفيما سيأتي في الآية إن شاء الله تعالى إباءً عنه، ويكذبه ما أخرجه ابن جرير. وابن المنذر.وابن أبي حاتم. وأبو الشيخ. والطبراني في الأوسط عن محمد بن الحنفية رضي الله تعالى عنه قال: قلت لأبي كرم الله تعالى وجهه: إن الناس يزعمون في قول الله تعالى: {وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مّنْهُ} أنك أنت التالي؟ قال: وددت أني هو ولكنه لسان محمد صلى الله عليه وسلم، على أن في تقرير الاستدلال ضعفًا وركاكة بلغت الغاية القصوى كما لا يخفى على من له أدنى فطنة.ونقل أبو حيان أن هذا الشاهد هو أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه وفيه ما فيه، وفي عطف يتلوه احتمالان: الأول: أن يكون على ما وقع صفة لبينة، والثاني: أن يكون على جملة {كَانَ} ومرفوعها، وقوله سبحانه: {وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ موسى} عطف على {شَاهِدٌ} والضمير المجرور له، وقد توسط الجار والمجرور بينهما، والظاهر أنه متعلق حذوف وقع حالًا من الكتاب أي {وَيَتْلُوهُ} في التصديق {كِتَابُ موسى} منزلًا من قبله، وحاصله {أَفَمَن كَانَ على بَيّنَةٍ مّن رَّبّهِ} ويشهد لصدقه شاهد منه وشاهد آخر من قبله وهو كتاب موسى، قيل: وإنما قدم في الذكر المؤخر في النزول لكونه وصفًا لازمًا له غير مفارق عنه ولعراقته في وصف التلو، وهذا على تقدير أن يكون المراد بالشاهد الإعجاز كما اختاره بعض المحققين وقد يقال: إن تأخير بيان شهادة هذا الشاهد عن بيان شهادة الشاهد الأول لأنها ليست في الظهور عند الأمة كشهادة الأول وهو جار على غير ذلك التقدير أيضًا، وتخصيص كتاب موسى عليه السلام بالذكر بناءً على عدم إرادة الإنجيل فيما تقدم لأن الملتين مجتمعتان على أنه من عند الله تعالى بخلاف الإنجيل فإن اليهود مخالفون فيه فكان الاستشهاد بما تقوم به الحجة على الفريقين أولى.وأوجب بعضهم كون {وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ موسى} جملة مبتدأة غير داخلة في حيز شيء مما قبلها وهو مبني على كثير من الاحتمالات السابقة في الشاهد، وقرأ محمد بن السائب الكلبي. وغيره {كِتَابٌ} بالنصب على أنه معطوف على مفعول يتلوه أو منصوب بفعل مقدر أي ويتلو كتاب موسى، والأول أولى لأن الأصل عدم التقدير، ويتلو في هذه القراءة من التلاوة، والضمير المنصوب للقرآن والمجرور لمن، و{مِنْ} تبعيضية لا تجريدية، والمعنى على ما يقتضيه كلام الكشاف {أَفَمَن كَانَ على بَيّنَةٍ} على أن القرآن حق لا مفترى، والمراد به أهل الكتاب ممن كان يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحق وأن كتابه هو الحق لما كانوا وجدوه في التوراة، ويقرأ القرآن شاهد من هؤلاء، ويقرأ من قبل القرآن كتاب موسى، والمراد بهذا الشاهد ما أريد به في قوله سبحانه: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مّن بَنِى إسراءيل على مِثْلِهِ}[الأحقاف: 10] وهو عبد الله بن سلام رضي الله تعالى عنه، ففي الآية مدح أهل الكتاب وخص من بينهم تالي الكتابين وشاهدهم بالذكر دلالة على مزيد فضله وتنبيهًا على أنهم مشايعوه في اتباع الحق وإن لم يبلغوا رتبة الشاهد، وفي قوله تعالى: {يتلوه} استحضار للحال ودلالة على استمرار التلاوة، وهو كما قيل في غاية التطابق للكلام {لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} أي مؤتمًا به في الدين ومقتدى، وفي التعرض لهذا الوصف مع بيان تلو الكتاب ما لا يخفى من تفخيم شأن المتلو والتنوين فيه للتعظيم، وكذا في قوله سبحانه: {وَرَحْمَةً} أي نعمة عظيمة على من أنزل إليهم ومن بعدهم إلى يوم القيامة باعتبار أحكامه الباقية المؤيدة بالقرآن العظيم وهما حالان من الكتاب {أولئك} أي الموصوفون بتلك الصفة الحميدة وهي الكون على بينة {يُؤْمِنُونَ بِهِ} أي يصدقون بالقرآن حق التصديق حسا يشهد به تلك الشواهد الحقة المعربة عن حقيته ولا يقلدون أحدًا من عظماء الدين؛ فالضمير للقرآن، وقيل: إنه لكتاب موسى عليه السلام لأنه أقرب ولا يناسب ما بعد، وإن لم يك خاليًا عن الفائدة، وقيل: إنه للنبي صلى الله عليه وسلم {وَمن يَكْفُرْ بِهِ} أي بالقرآن ولم يعتد بتلك الشواهد الحقة ولم يصدق بها {مّن الاحزاب} من أهل مكة ومن تحزب معهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله بعضهم، وأخرج عبد الرزاق عن قتادة أن الأحزاب الكفار مطلقًا فإنهم تحزبوا على الكفر، وروي ذلك عن ابن جبير، وفي رواية أبي الشيخ عن قتادة أنهم اليهود. والنصارى، وقال السدي: هم قريش، وقال مقاتل: هم بنو أمية. وبنو المغيرة بن عبد الله المخزومي. وآل أبي طلحة بن عبيد الله {فالنار مَوْعِدُهُ} أي يردها لا محالة حسا نطق به قوله سبحانه: {لَيْسَ لَهُمْ فِي الاخرة إِلاَّ النار} [هود: 16] وآيات أخر، والموعد اسم مكان الوعد كما في قول حسان:وفي جعل النار موعدًا إشعار بأن له فيها ما لا يوصف من أفانين العذاب {فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مّنْهُ} أي في شك من أمر القرآن وكونه من عند الله تعالى غبَّ ما شهدت به الشواهد وظهر فضل من تمسك به، أو لا تك في شك من كون النار موعدهم، وادعى بعضهم أنه الأظهر وليس كذلك، وأيًا مّا كان فالخطاب إن كان عامًا لمن يصلح له فالمراد التحريض على النظر الصحيح المزيل للشك، وإن كان للنبي صلى الله عليه وسلم فهو بيان لأنه ليس محلًا للشك تعريضًا بمن شك فيه ولا يلزم من نهيه عليه الصلاة والسلام عنه وقوعه ولا توقعه منه صلى الله عليه وسلم، وقرأ السمعي.وأبو رجاء. وأبو الخطاب السدوسي. والحسن {مِرْيَةٍ} بضم الميم وهي لغة أسد. وتميم، والكسر لغة أهل الحجاز {أَنَّهُ الحق مِن رَّبّكَ} أي الذي يربيك في دينك ودنياك {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يُؤْمِنُونَ} بذلك إما لقصور أنظارهم واختلال أفكارهم وإما لاستكبارهم وعنادهم و{الناس} على ما روى عن ابن عباس أهل مكة، قال صاحب الفينان: جميع الكفار، هذا والهمزة في {أَفَمَنِ} قيل: للتقرير ومن مبتدأ والخبر محذوف أي أفمن كان كذا كمن يريد الحياة الدنيا وزينتها، وحذف معادل الهمزة ومثله كثير، واختار هذا أبو حيان، والذي يقتضيه كلام الزمخشري ولعله الأولى خلافه حيث قال: المعنى أمن كان يريد الحياة الدنيا كمن كان على بينة أي لا يعقبونهم ولا يقاربونهم في المنزلة إلى آخر ما قال، وحاصله على ما في الكشف أن الفاء عاطفة للتعقيب مستدعية ما يعطف عليه وهو الدال عليه قوله سبحانه: {مَن كَانَ} [هود: 15] الآية، فالتقدير أمن كان يريد الحياة الدنيا على أنها موصولة فمن كان على بينة من ربه، والخبر محذوف لدلالة الفاء أي يعقبونهم أو يقربونهم، والاستفهام للإنكار فيفيد أن لا تقارب بين الفريقين فضلًا عن التماثل فلذلك صار أبلغ من نحو قوله تعالى: {أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا} [السجدة: 18] وأما إنها عطف على قوله تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ الحياة الدنيا} [هود: 15] فلا وجه له لأنه يصير من عطف الجملة، ولا يدل على إنكار التماثل، ولا معنى لتقدير الاستفهام في الأول فإن الشرط والجزاء لا إنكار عليه انتهى، وهو جار على أحد مذهبين للنحاة في مثله، ويعلم مما تقرر أن الآية مرتبطة بقوله سبحانه: {مَن كَانَ} [هود: 15] إلخ، ومساقها عند شيخ الإسلام للترغيب أيضًا فيما ذكر من الإيمان بالقرآن. والتوحيد. والإسلام، وادعى الطبرسي أنها مرتبطة بقوله تعالى: {قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مّثْلِهِ} [هود: 13] وأن المراد أنهم إذا لم يأتوا بذلك فقل لهم: {أَفَمَن كَانَ على بَيّنَةٍ} ولا بينة له على ذلك.
|